دعونا نُهاجر معًا إلى زمانٍ حلّقت فيه قلوبٌ طاهرة، فعَلت وارتقت وشقّت الغيوم باحثةً عن النور، ولنقترب من قلب بريء لفتاة رقيقة، انتفض ودقّ وسبّح بحمد الله؛ فهاجر وحيدًا، تاركًا الأب، والأهل، والدار، والمال، والجاه، واستجاب لنداء الحق، وأسلم مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلّم:
إنه قلب الحبيبة أم كلثوم بنت عقبة.
هاجرت بقلبها، واشتاقت لهذه الراحة والسكينة التي يحتوي عليها ديننا، فآمنت وأسلمت، على الرغم من أنَّها كانت ترى والدها (عقبة)، وشقيقها (الوليد)، والآخر (عمارة)، يتفننون في تعذيب العبيد والضعفاء لأنهم أسلموا، فلم تتراجع؛ بل حلّقت معهم.
تمامًا كما تفعلين أنتِ عندما تهاجرين بقلبكِ في زمن تزاحمت فيه الفتن، عندما تُقبِلين على الطّاعات، وترفعين رأسكِ إلى السّماء، وتُغمضين عينيكِ وتتنفّسين براحةٍ فينشرح صدركِ؛ لأنّكِ على صلةٍ دائمةٍ بالله.
هاجرت (أمُّ كلثوم) بنفسها عندما اتخذت قرارًا شجاعًا، فخرجت من بيتها لتهرب بدينها مهاجرة إلى المدينة، تاركةً خلفها عزَّ الأسرة، وأمان الأبِ، وعزوة الأهل، لتشقّ طريقًا طويلًا، تتلفّت يمينًا ويسارًا وهي لا تجد ما تركبه، وحيدة لا تجد من يصاحبها ويؤنسها. احتواها الليل بظلمته، وقَست عليها الشّمس الحارقة فأظمأتها، فلم تتراجع، وبللت شفتيها بالتسبيح، وتمسّكت بأطراف حجابها تطلب منه الأمان، واستعانت بدقّات قلبها تسأله الأُنس في تلك الطريق الوعرة، حتى الرمال الناعمة لم ترحم قدميها؛ فصارت تبتلعهما بدِقتهما ورقتهما، وعلى الرغم من هذا أكملت الطريق، مُهاجرة على قدميها من مكة إلى المدينة بروحٍ شريفةٍ وقلبٍ مهاجر.
وكذلك أنتِ في كل لحظة تَثبُتين فيها، وتَتمسّكين فيها بدينك وحجابك وكرامتك وطاعتك لربك، حتى لو غضب منك الجميع، عندما تقفين عند حدود الله، عندما تتساءلين عن الحلال، عندما تترفعين عن الحرام، عندما لا تشهدين الزور، عندما تقولين: "لا" في وجه من يقول للمعاصي: "نعم".
عندما تصفعين الشياطين على وجوههم القبيحة، وأنت تزيحينهم من طريقك، ربّما تكونين أحيانًا وحيدة مثلها، لكنك تَثبُتين؛ لأنك تشبهينها بقلبك المهاجر.
وأخيرًا وَصَلَتْ، وأخيرًا فَرِحَتْ، وها هي في المدينة، لكنّهم سرقوا منها فرحتها عندما سارع أهلها للمدينة طالبين من النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أن يُرجعها التزامًا بصلح الحديبية، وبنود المعاهدة التي نصّت على إرجاع كل من أتى من مكة مسلمًا وردِّه لأهله.
حزنت الحبيبة، واعتصر فؤادها المهاجر ألمًا، وارتفع محلِّقًا في السماء يبتهل ويتوسّل إلى الله، فارتجّت السماء، واهتزّت أجنحة الملائكة، واقترب الأمين (جبريل) حاملًا آياتٍ أنزلها الله -عزَّ وجلَّ- رحمة بقلبها.
قال تعالى:
﴿فإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾.
[سورة الممتحنة].
الله أكبر!
هنيئًا لك أيها القلب المهاجر، الآن فقط تستطيع أن تفتح جناحيك وتحلِّق بأمان.
هكذا كانت حبيبتنا؛ فهاجري بقلبكِ مثلها، وكوني مثلها.