وتعلمتُ أنه لا تبلغ الكلمةُ شغافَ القلوبِ ، إلا إذا كانت رقيقةً وصافيةً ، تمامـًا مثـل طائرةِ الورقِ ، لا ترتفع إلا حين يرقُّ ورقُها وتصفو أجواؤها..
ولما كانت علاماتُ إعرابِ الكلمة الرفع والنصب والخفض والجزم ، رأيتُ قلوبَ العبادِ حالُها كحالِ الكلمةِ ، فرفعُ القلوبِ أن ترتفعَ عن الدنيا وأدرانِها كحالِ الزاهد ، أو ترتفعَ عن الشـهواتِ والأهواءِ كحالِ العابد ، وقد يَرفع صاحبُ القلبِ قلبَه فيبدو مُنكسرًا لخالقه ، وقد يكونُ رفعُ القلبِ برفعِ اليد عن البطشِ والحرامِ ، أو رفعُه بلسانِ المحتاجِ الذي يلهجُ بالدعاءِ والحاجةِ من مولاه..
أما نصبُ القلوبِ فلا يتم إلا بانتصابِ البدنِ في محرابِ الكونِ وعَالَمِ الملكِ ، ثم بتأملِ النفس في الملكوتِ ، وانتصابِ الروح ومعايشتها لعالم الغيبِ وكأنه مشهودٌ ، ففي داخلِ المؤمن مئذنةٌ يصعدُ إليها ويرددُ أذانَ الحبِّ بينه وبين خالقه..
وخفضُ القلوبِ في بذلها في ساحاتِ الجهاد ، أو ملازمة الخشوع ومعايشة القشعريرة الإيمانية التي هي بمثابة خميرة الوجل في أعماقِ النفس ، فيبدو صاحبُها كطيرٍ مهيضِ الجناح ، أو كرجلٍ هيئته كهيئةِ من يُساقُ إلى الدْبحِ بعد دقائقَ ، أما جزمُ القلوبِ فيكونُ بوأدِ أماني الدنيا ، وقطعِ دروبِ إبليس وجنده عن بعدٍ ، واليأس مما في أيدي الناس ولو ذاقت الروحُ حتفها ، ثمَّ يأتي حظُّ السكونِ والأنس بالله ، فتسكنُ النفـس لخالقــها ومع خالقــها.. ويقيناً ، كلُّ مُرٍّ سـ يَمُرُّ ، ويبقى الأجرُ والثوابُ ، فأحسنوا ضيافة البلاءِ كما تحسنوا ضيافة الأحباب..