من قلب البساطة يأتي الجَمال

لقد نمتَ ولم يُسهرك ألَم، وقُمت ولم تُفزِعك مصيبة، وأصبحت ولم تُرهبك حرب؛ أنت في نعمة يصغر معها كل هم، لا تجعل همومك الصغيرة تُنغّص عليك هذه النّعَم الكبيرة، فوالله لو فقدت شيئًا منها لعلمت أن همومك تلك كانت لا شيء وأنك كنت تملك أكبر نعمة..

اللهم لا تصُدّ عنا وجهك يوم أن نلقاك،
اللهم لا تطردنا من بابك فمن لنا يا ربنا إن طردتنا يا رب العالمين يا أرحم الراحمين،
اللهم لا تحرمنا سعة رحمتك، وسبوغ نعمتك، وشمول عافيتك، وجزيل عطائك،
ولا تمنع عنا مواهبك لسوء ما عندنا، ولا تجازِنا بقبيح عملنا،
ولا تصرف وجهك الكريم عنا برحمتك يا رحيم..

ولا تؤمّلنا بشيءٍ إن لم يكن لنا فيهِ نَصيب،
ولا تجعلنا نركُن كل حياتنا على قشّة نظن بأنها خلاصَنا،
ولا تُعلّقنا بالأحلام البعيدة ولو كانت تُسلّينا وتمرّر لنا الوقت..

آمين يا رب

احترقت مدن أحلامنا واحترق أطفال دفاترنا وخمدت نار الحنين إليهم وهجرنا أطلالهم وأُسدِلت ستائر المشهد الأخير وبنى النسيان أعشاشه في داخلنا ، إستسلموا للرحيل واستسلمنا معهم ، فرحلوا ورحلنا ، وغابوا وغِبنا وفرّت منّا خلفهم أشياء كنا نحتفظ بها في قفص الذكرى وصندوق الذاكرة..وفرَّ الأمان وفرَّ الحنين ، وبقينا أسرى أسوار حكاية إحساس باءت بالفشل..

مؤلم حين نجد أنفسنا على الرّف المهمَل من الحياة ،
أن نصبح خارج سياج حكاية كانت لنا وطن وخارج حصون مشاعر كانت لنا ذات يوم أمل ..

نخاف من اليقين ، نخاف أن نكمِل الطريق إلى وجهة فيها حتف أحلامنا أو حقيقتها ، نخاف أكثر أن نقضي العمر في مطاردة طواحين الهواء ، أن نستخدم عتادنا في خوض معارك لا تعنينا ، أن نضيّع الوقت على حياة لا تشبهنا ، إن الطريقة الوحيدة التي ننجو بها هي الأسئلة ، نحيط أنفسنا بتِرسانة يومية من الأسئلة الحقيقية ، نحن نقتات على السؤال الصحيح على السؤال العظيم ، على السؤال الذي يحول بيننا وبين هشاشة الأنا وغرورها ، وكم مرة أنقذتنا هذه الأسئلة من أنفسنا ، نحن نشفق على المتأكدين من كل شيء ، على الذين لا يسألون ولا يشكّون على من يأخذون المبادئ معلّبة مطهيّة مقشّرة وجاهزة للإبتلاع ، دون أدنى جهد ، أظن أن الإجابات الجاهزة هي معضلة الإنسان الكبرى..

طَيرٌ قد هَجَرَ عُشّه
فبعثرَت الريحُ قَشّهُ
بهِ العِلّةُ أم بالشتاء؟
أم على المُتضَرّر
اللجوء إلى القضاء ؟!

من أقسى المشاعر وأكثرها وطأةً على القلب، أن تعود رويدًا رويدًا كالغريب مع من ألِفته روحك وقرَّ به فؤادك، الذي كان يعي ما تعنيه من كلمة واحدة أو نظرة، الآن بات حتى عشرة أسطر لا يقوى على فهم جملة واحدة منها: “إنّي أدوس بساطك اليوم غريبًا. بعدما كانت هذه الرُّوح منزلي"..

الغربة قد تكون وطن تماماً كما قد يكون الوطن غربة ، فالغربة الحقيقية هي الشعور بالوحدة هي رقعة الضياع المتسعة في داخلنا ، هي بقعة الأمان المستعمرة في أعماقنا ، هي عجزنا عن التأقلم مع الأرض ومع من عليها ، هي إختناقنا رغم الهواء ، هي قيودنا رغم الحرية ، هي إحساسنا المرعب بأننا لا نمُت بصلة للأشياء حولنا ..هي موت بطيء بيننا وبين أنفسنا..تواجدنا في مكان لا يشبهنا هي الغربة الحقيقية ..نحن لاجئين أينما ذهبنا ، لاجئين للحب ، للأمان ، للاستقرار ..فقداننا لتلك الأمور التي لجأنا إليها سيجعلنا نعاني للأبد ، فالغربة تبدأ منذ ولادتك إما أن تألف وطنك أو تشعر بالغربة فيه وذلك سينعكس عليك أينما ذهبت..منزلك هو من سيحدد أمانك ووجهتك ، منزلك من سيحمل أعباء معاناتك للأبد..

مرت سنوات العمر ، كبرنا وتغيرت ملامحنا في المرآة ، تضخمت بنا السنوات ، وجفت أشجار أيامنا ونزفنا صحتنا كالماء ، أصبحت تفاصيلنا وطقوسنا تاريخ وارتفعَ صفير قطارنا الأخير ، لقد فرّ العمر هارباً ونحن نتضوّر وجعاً ونتحسّر ونندُب حظنا رغم علمنا يقيناً أنّ لا شيء مُجدٍ ، كل ما نفعله بأنفسنا ، وعلى غفلة منا حُبِسنا داخل أقفاص الحزن وضياعنا بمتاهات الوجع السّرمدي..ولا نهاية للأحزان ، إنها راحلة معنا لا محال..