قد يجزل الله عطاياه ومننه على أقوام فيغرقهم بنعمه الجسام وآلاءه العظام ، وفي غمرة ونشوة هذه العطايا قد يتغلغل الأنا الأعلى في نفس المغمور بتلك الآلاء وكأنه قد أمسك بالثريا أو دنا من القمر ....!
إن صاحب هذا الهندام يحب الإطراء ، والإشارة إليه بالبنان ، والإستغراق في الحمد والثناء عليه .!.
وفي ظل هذا الطود الشامخ ، والغطرسة المهيمنة قد يتجاسر فيحتقر الآخرين ممن هم دون مقامه الرفيع ؛ لقلة ذوات أيديهم ، أو وضاعة نسبهم ، أو لعدم حسن صورهم وألوانهم ، وهذا كله يدل على ضعف في العقل ، وقلة في الإدراك ، وضحالة في التفكير ، وسطحية في الفهم ، فالدنيا وما فيها من زخارف ، وأموال ، ومناصب دول بين الناس ، فكم من فقير اغتنى ، وكم من وضيع ارتفع ، وكم من ذليل ارتقى ...
إن التزخرف ، والتبهرج في الملبس والمنظر لا يغني عن الله شيئاً إذا صادف قلباً خاوياً ، إذ المعيار الأسمى ، والمقام الرفيع هو بصلاح القلوب ، كما هتف بذلك نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) رواه مسلم .
إن خفض الجناح للمؤمنين ، وطأطأة الرأس في تواضع جم لعباد الرحمن دليل على كمال العقل ، وسمو الأخلاق ، وعلو الإيمان ، ويتضح ذلك جلياً عند محك السراء والضراء ، ولا غرو إن عرفتم أن المؤمن في كلا الحالتين يلبس رداء التواضع ، فلا تهزه عاصفة ، ولا تشمخ بأنفه نعمه ...
ولكم أن تتذكروا ذلك الموقف الجليل في قدره العميم في نفعه ، عندما تولى الصديق أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الخلافة ، وقد كان قبلها يحلب للحي أغنامهم ، فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الحي : ( الآن لا يحلب لنا أبو بكر منائح دارنا ، فسمعها أبو بكرـ رضي الله عنه ـ فقال : بلى والله لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلتُ فيه عن خلق كنتُ فيه ، فكان يحلب لهم ) ..
مكانتك عند الله تعالى تتجلى ظاهرياً بقدر قربك من مولاك ، وبمزيد تقواك ، وخشيتك لله ، فأكرم الناس منزلة عند الله تعالى هو أعظمهم تقوى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) سورة الحجرات آية 13 .
بتواضعك تزداد رفعة في الدنيا والآخرة ، وكم هو جميل أن تكون ذا مكانة في الأرض وفي السماء ، مصداقاً لقول الحبيب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) رواه مسلم .
كلما تسامت بك علياء المجد ، وارتفعت بك سحابة العلو ما زادك ذلك إلا تواضعاً ، وتسامياً بأخلاقك الرفيعة .
ومهما بلغ بك الحال من شموخ ، وعلو كعب ، ومرح في الأرض فلن تستطيع مهما أوتيت من قوة أن تخرق الأرض ، أو تبلغ الجبال طولاً .
قال الشـــــــــــــاعر :
تواضع تكن كالنجم لاح لناظــر
على صفحات الماء وهو رفيــع
ولا تك كالدخان يعلــــو بنفسه
إلى طبقات الجو وهو وضيــــــع